اللفظ وعاء لغوي وثقافي، يحمل دلالة أو أكثر، والعلاقة بين الألفاظ والمعاني كالعلاقة بين الجواهر وأعراضها، المعاني تدور حول ألفاظها دوران الأعراض حول جواهرها، والدلالات هي بوابات المعاني التي تسوقها الألفاظ، ولا يمكن فهم المراد من اللفظ مجردا عن دلالته، كما لا يتصور وجود الدلالة دون تصور اللفظ الذي انبثقت منه أصلا. لا يقتصر إدراك معناه على النطق فقط، ولهذا رگز علماء اللغة على أن اللفظ الدال يجب أن تجتمع فيه ظاهرتان:– ظاهرة تتعلق بالصوت، أي باللفظ المنطوق به الذي تنشأ عنه الدلالة– وظاهرة تتعلق بالدلالة، أي بالدلالات الناشئة عن هذا اللفظ.
وإن دلالة الإشارة كأحد أنواع الدلالات الناشئة عن اللفظ ذات أثر بالغ في التعبير عن المعنى، وهي دالة على سعة الوعاء اللفظي، بحيث لا يقتصر معنى اللفظ على ما يدل عليه رسمه المنطوق به، وإنما يردفه بمعنى آخر مأخوذ من ذات الصيغة اللفظية، إلا أن هذا المعنى الذي دل عليه اللفظ، ولم يقصده المتكلم أصلا اصطلح عليه علماء اللغة اسم “الإشارة”.
والإشارة من الدلالة اللغوية، ومن أقسام الدلالة المنطوق بها، وقد استحسنها اللغويون لأنها تمتلك ناصية التعبير عن المعاني المتعسرة على اللفظ المنطوق، فتقوم بترجمة المعاني التي تعسر على اللفظ الإفصاح عنها، ولعلها استعيرت من تعبير العاجز عن النطق کالأخرس ونحوه، فتنوب عن اللفظ في الإفصاح عن المعاني التي يصعب على اللسان التعبير عنها، ومن هنا يأتي قول الجاحظ: “نعم العون هي له، ويعم الترجمان عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ.. الخ”، وهذا يجعل الإشارة مرتبطة بعلم البيان الذي يدل على المعاني التي يتناولها اللفظ أو يعبر عنها، والذي تدخل فيه الاستعارات والكنايات وأنواع البيان المأخوذ من وراء العبارة اللفظية لكن بطريقها، ولهذا قال ابن منظور: “وحسن الإشارة من تمام حسن البیان”.وقد اعتنى علماء اللغة والبيان بالدلالة على وجه العموم، ودرسوها بعمومها، وقل من درسها بأقسامها، وذلك في أبواب مختلفة من علوم العربية، ومن أهمها علم البيان والأشباه والنظائر، وقد بين السيوطي (۹۱۱ھ) أن هذا العلم بحثه المتقدمون والمتأخرون باسم الأشباه والنظائر، وذكر من صنف فيه أمثال مقاتل بن سلیمان (۱۰۰ه) وابن فارس (۱۳۹ه) وابن الجوزي (۵۹۷ه)، وبين أصناف الألفاظ التي تحتمل عدة معاني ووجوه وقال: “وقد جعل بعضهم ذلك من أنواع معجزات القرآن، حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجها وأكثر وأقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر . وذكر مقاتل في صدر كتابه حديثا مرفوعا “لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة”، وقد فسره بعضهم بأن المراد أن يرى اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة، فيحمله عليها إذا كانت غير متضادة، ولا يقتصر به على معنى واحد، وأشار آخرون إلى أن المراد به استعمال الإشارات الباطنة وعدم الاقتصار على التفسير الظاهر”.والدراسات اللغوية السابقة كانت تتعرض للبحث في اللفظ وصلته بالمعنى، وكانت ترد في بعض الكتب دراسات مقتضبة في اختلاف اللفظ والمعنى كما لكتب “غريب القرآن” و “مشكل القرآن ” الأثر الكبير في توجيه البحوث اللغوية في مدلول اللفظ، وتعد بحوث الأضداد من أهم البحوث التي عنيت بدراسة المدلول، وقد تناولها اللغويون بالدراسة والبحث، فأفردوا لها المصنفات بهذا الاسم، کالأصمعي (۲۱۹ھ)، وأبو حاتم (۲۶۸ ه)، وابن السيگيت (۲44 ه)، وابن الأنباري (۳۲۷ه).
وقد يكون البحث في المدلول جزءا من البحث العام في لغة القرآن وبيانه، كما فعل أبو عبيدة (۲۰۹) في “مجاز القرآن”، وابن قتيبة (۵۲۹۷) في “مشكل القرآن”، ومما يشد نظر المستقصي لهذه الدراسة اجتهاد مؤلفيها في بحث معنى اللفظ المفرد وصلته بالسياق، ومدی اختلاف معناه باختلاف تركيبه في الجملة، ثم مدی تبعيته للعبارة.وإن ما يحكم العلاقة بين الدال والمدلول، أو الصور اللفظية والمعاني المنبثقة عن تلك الصور من إشارة وغيرها، إنما هي جملة من الضوابط والمعايير التي لا يمكن إغفالها وتجنبها، وإلا انهار البنيان العلمي لذلك العلم الذي يختص بدراسة الدلالات اللغوية وعلاقتها بمدلولاتها، كما قال ص احب خزانة الأدب: “أن يكون اللفظ القليل مشتملا على المعنى الكثير، بإيماء ولمحة تدل عليه، وهذا ضرب من البلاغة يمتدح به فاعله”.۳وهنا يظهر الفرق بين أصول اللغة العربية ومناهج النقد الأدبي الغربي، حيث تعتمد طرق ومناهج النقد الأدبي الغربي في دراسة العلاقة بين الدال والمدلول على أسس ونظريات متباينة مختلفة، وكلها نظرات حديثة التصور ليس لها جذور لغوية عميقة، وهذا ما يجعلها رابضة تحت مجهر البحث والتطوير للإجابة على سؤال طالما أثار جدلا كبيرا في الساحة الفكرية الغربية، ألا وهو هل الهدف من قراءة النص الوصول إلى معناه أم أن مغزاه تحقيق المتعة؟ أم الوصول إلى تفسير موجه للمعنى أم إشباع نفسي ؟ إلى غير ذلك من المحاور التي أفرزها الخلاف الكبير حول ما يعرف في علم اللغة ثنائية القارئ- النص)، وإن الدراسات الغربية لم تستقر بعد عند حډ معين، فلا تزال في طور نموها وتطورها!وإن الإشارة كنوع من أنواع الدلالة، تضعها اللغة العربية مع سائر الدلالات اللغوية الأخرى، تحت الضوابط والمعايير التي تحكم مدى دقتها وعمقها في التعبير عن المعنى المراد. بينما نجدها في المناهج الغربية لا تخضع لضابط أو ميزان، باستثناء هوى القارئ أو السامع ورغبته في أن يكون المعنى المراد من النص هو ما يرغبه ذهنه في أن يكون، حتى ولو لم يوافق رأي قائله أو مراده، وهذا ما يسمى ب “نداء حرية القاريء” الذي أطلقه رولان بارث (Roland Barthes)، أحد رواد المنهج التفكيكي، الذي يعتمد على تجزيء الجملة، وربما اللفظة الواحدة لانتزاع المعاني من ورائها انتزاعا، من غير ضابط أو ميزان بل بمزاج حر من القارئ، مطلق عن أي ض ابط أو قيد، فله أن يحكم على النص الذي يم عليه ويفهم منه ما يحلو لفكره ورأيه، ولو كان ذلك على حساب البنية اللفظية للكلمة أو الجملة، بل وينساق أنصار هذه النظرية وراء فكرهم هذه إلى درجة النشوة التي تتخيلها عقولهم، فكلما حصلوا على معاني أكثر كلما كان ذلك إبداعا عظيما، كما يعبر عن هذا کریستوفر نورس بقوله: “التفكيكية لا ترسم خطا فاصلا بين ذلك النوع من القراءة اللصيقة التي تناسب النص الأدبي، وبين الاستراتيجيات اللازمة لاستخلاص مضامین لغة النقد الأكثر غموضا.. ويتمخض ذلك عن رفض تام، بكل معاني هذه الكلمة، لنظام الأولويات الذي يحكم العلاقة التي بين لغة الإبداع ولغة النقد”، وهو أيضا عين ما توصل إليه رولان بارث في كتابه لذة النص، وجاك بيرك (Jacques Berque) في كتابه القرآن والقراءة، وغيرهم ممن حاول تطبيق النظريات اللغوية الغربية على نصوص اللغة العربية وخاصة على القرآن الكريم، وبين الأستاذ میشال زكريا أن التفكيكية هي المجموع الناتج عن اقتران الدال بالمدلول، وأن الرابط الذي يجمع بين الدال والمدلول رابط كيفي.إن استقرار البنية اللفظية له الدور الأكبر في دلالة اللفظ على المعنى، لأن وحدة اللفظ تشکل مع وحدة الجملة كلا يتوقف عليه تمام المعنى الذي يراد من الكلام، والدلالة المأخوذة من اللفظ لا تخرج عن تلك الوحدة، فمن غير الممكن أن يكون لتلك النظريات الغربية تطبيق على نصوص لغتنا العربية بحال، لأن ما بين تلك المناهج الغربية ومنهج اللغة العربية بوث شاسع وفرق كبير، بحيث لا يلتقيان في الطريقة ولا في الهدف والنتيجة، فإسقاط مقاييس لغة على نصوص لغة أخرى لن يكون مجديا في فهم تلك النصوص، كما أنه لا يعطي تلك المقاييس فاعلية في التطبيق العملي على أي نص آخر، وبالتالي فالحكم على تلك النصوص بحكم ما سيكون أمرا مجانبا للمنهج العلمي، كما أن الحكم على المقاييس بالعقم والفشل أمر مرفوض لعدم التقاء تلك المقاييس مع النصوص التي يتم التطبيق عليها.