نشأةُ اللّغات وتطورها
اللغة ظاهرة اجتماعية تنشأ عن النشاط الإنساني التواصلي، ويرجع الفضل في نشوء اللغات إلى الحياة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان. وعلى الرغم من اختلاف الباحثين في نظريات أصل اللغة، وهل أسماء الأشياء تعلّمها الإنسان من مصدر خارجي كالوحي والإلهام وغيره أم أنَّه اخترعها وتعارف على استعمالها في الواقع؟ إلا أن أكثر علماء اللغات يميلون إلى أن أصل اللغات يرجع إلى وضع الخالِق أسماءً وكلماتٍ عرَّف عليها الإنسان، ويُسمَّى هذا الرأي “الاتجاه التوقيفي”، وظهر هذا الاتجاه في فلسفة أفلاطون وهرقليطس، لكن عُلماء اللغات في تراثنا العربي كانوا أكثر دقّة ووضوحًا، بالتصريح بأن أصل اللغات من الله، مُستَدلِّينَ باستقراء وتحليل الواقع والتجارب التاريخية للغات البشرية، وأيَّدَ هذا القرآنُ الكريم (وعَلَّمَ آدمَ الأسماء كُلَّها) ]البقرة 130 [، وبعضُ نصوص الإنجيل وسِفر التكوين1. وصَنّف المتأخرون من علماءُ اللغات نشأة اللغات الإنسانية وتطورها في الآتي:
أولًا: لغات ساميّة – حاميّة (Semito-Hamitic)
- الساميّة الشمالية: وهي اللغات الأكادية والآشورية والبابلية
والكنعانية والعبرية والآرامية والفينيقية والأوغاريتية. - الساميّة الجنوبية: وهي العربية واليمنية القديمة والحبشية السامية.
- اللغات الحاميّة: وهي المصرية والبربرية والكوشيتية.
ثانيًا: اللغات الهندية ـ الأوربية (Indo-European)
وتشمل اللغات الآرية، وهي الهندية والفارسية قديمها وحديثها،
والإغريقية والجرمانية والإيطالية، والسلتية بفروعها المنتشرة
في القارة الأوربية والجزر البريطانية، واللاتينية بفروعها.
ثالثًا: اللغات الطورانية (Touranienne)
وهي الفصائل ما سوى السابقة من اللغات، كالتركية والمغولية والتركمانية واليابانية والصينية والفينية والأجرية والفنلندية ولغات الباسك ولغات الملايو ولغات القبائل الإفريقية ولغات السودان.2
اللغة العربية وتطورها
اسم العرب مأخوذ من الإعراب وهو البيان، لاختصاصهم به، وسُمّي أهل البادية أعرابًا؛ لأنهم أهل فصاحة وقوة بيان. وقيل: إنّ من أولاد إسماعيل عليه السلام من نَشَأَ في عَرَبة وهي باحة من أرض تِهامَة ثم انتقلوا إلى الحجاز3. وتطورت اللغة العربية من لسانين قديمين هما:
- اللغة القحطانية: وهي لغة أهل اليمن وجنوب الحجاز، وتطورت نتيجة اختلاط أهل اليمن بالقبائل العربية في الشمال من جهة، والتواصل مع غربها من الحبشة وبلاد شرق النيل حيث يتكلمون الحبشية السامية من جهة ثانية، ونتج عن تطوّر اللغات القحطانية لغة واحدة متكاملة هي اللغة الحِميَريَّة. وقد استمدّت أصولها من تطورات الساميتين الشمالية والجنوبية وكذلك من الحامية المنتشرة غرب اليمن وشرق نهر النيل ومن اللغة المصرية القديمة.
- اللغة العدنانية: وهي لغة أهل الحجاز وبعض القبائل المنتشرة حول الحجاز، وهي من رواسب اللغات السامية المنشرة في بلاد الشام والحجاز وشبه الجزيرة العربية من البحر الأحمر إلى الخليج العربي. وكذلك تأثرت بألسنة الأمم المنتشرة في البلاد المجاورة للحجاز والتي برزت فيها حضارات متعاقبة ذات ألسنية متعددة، ويمكن أن نرجع التطور الكبير والمتسارع في اللغة العدنانية إلى عدة عوامل:
- الاختلاط بين القبائل العربية المنتشرة في شبه الجزيرة العربية وشمالها.
- موقع الحجاز الديني والتجاري بالنسبة للقبائل العربية؛ حيث تُعدّ مدينة مكة وأسواقها الموقع التجاري المركزي في شبه الجزيرة العربية، وكذلك فيها الكعبة التي هي المركز الديني لمعظم القبائل العربية المنتشرة من شمال بلاد الشام وحتى اليمن جنوبًا وما بين البحر المتوسط غربًا والخليج العربي شرقًا.
- تأثر بعض القبائل العربية بلغات وثقافات وأديان الحضارات المختلفة المجاورة لهم، كالفارسية والهندية والإغريقية والفنيقية والبابلية، وما تطور عن الآرامية والحبشية وغيرها.
إن موقع الحجاز الجغرافي والديني والتجاري وصلة القبائل العربية بالبادية، شكّلا حصنًا للغة العربية من الذوبان في تلك اللغات والثقافات المحيطة بالمناطق العربية، وجعل البادية مركز استمداد الفصاحة والبيان العربي بحكم عُزلتها النّسبية. ولهذا كان أكثر العرب فصاحة وبيانًا ألصقهم بالبادية. وهذا التطور الكبير في اللغة العدنانية تجلى في اللغة المُضَريَّة على نحو أوضح، حتى يمكن القول بأنها فاقت الحِميَريَّة في مرونتها وقدرتها على التطور بسرعة أكبر، لتغدو أشبه باللغة الرسمية في الخَطابة، فهي لغة السياسيين والمفكرين والحكماء والقضاة العرب. ولقد برز ذلك بشكل واضح في النوادي الأدبية التي أقيمت لاحقًا وانتشرت في معظم أرجاء الجزيرة العربية ومناطق العربية، وكانت تلك الندوات من أبرز عوامل تطور اللغة الأدبية كالشعر والخطابة وغيرها، حتى غدت الفصاحة والبيان العربي سمة أساسية من سمات العصر الجاهلي الذي سبق عصر الإسلام4.
استقامت اللهجات العربية على منهج موحّد بفضل القرآن الكريم، وتأثيره فيها، حيث بقيت اللهجات متباعدة حتى نزول القرآن، وبالرغم من تطور اللغة العدنانية إلا أنها لا زالت لهجات متنافرة، ولم يكن الاختلاف بينها محصورًا في طريقة النطق بالكلمة من ترقيق وإمالة، بل في تركيب الكلمة الواحدة وفي الحروف المركبة منها، وفي الإبدال والإعلال والبناء والإعراب وغير ذلك.
فكانت قُضاعَة تَقلِب الياءَ جيمًا إذا جاءت مُشدّدة، أو جاءت بَعدَ عَين. وكانت العرب تسمي ذلك عَجعَجَةُ قُضاعَة، ومنه قول الشاعر:
خالي عُويَفٌ وأبو عَلِجِّ
المُطعِمانِ اللّحمَ بالعَشجِّ
عَلِجّ هي عَلِيٌّ، العشجّ هي العَشيّ.
وهُذَيل كانت تَقلِب الحاء عينًا في كثير من الكلمات، فيقولون: أعلَّ اللهُ العلالَ. بدلاً من: أحلّ اللهُ الحلال. وحِميَرُ كانت تنطِقُ بـ “أَم” بدلاً من “ألـ” المعرفة في صدر الكلمة، وكانت العرب تسمي ذلك طُمطُمانِيّة حِميَر، وفي هذا قول أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن امبر امصيامٌ في امسفر؟ يعني: هل من البِّر الصيام في السفر؟
وقد برز في بداية الإسلام ذلك واضحًا في خُطَب الوفود التي كانت تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامهم له، فيقول له علي بن أبي طالب، بعد أن سمعه يُكلّم بَني نَهد: نحن بنو أبٍ واحِدٍ، ونَراكَ تُكَلِّم وُفودَ العرب بما لم نَفهَمُ أَكثَرَه!. فقال عليه الصلاة والسلام: أدبني رَبِّي فأحَسَن تأديبي5.
وبعد نزول القرآن الكريم، وحّد لغات العرب وكرّس المضرية في شكلها الجديد الذي أخذ طابعًا رسميًا أكثر في لغة قريش، إذ نزل القرآن بأكثر لغات العرب استعمالاً، لكنه كُتِبَ بلغة واحدة هي لغة قريش؛ لأنها من أسهل اللغات العربية وأقلها اضطرابًا، ولأن جميع العرب تفهمها وتستطيع ممارستها. واستمر تطور أشكال فنون التعبير الأدبية، لا سيما الشعر والخطابة، حتى بدأ عصر التدوين6.
بالرغم من بروز اللغة الـمُضَريّة من بين سائر اللهجات العربية إلا أن اللهجات العربية بقيت سائدة في التواصل الخطابي بين أبناء القبيلة الواحدة، واقتصر استعمال المضرية أو اللسان المشترك على مثقفي القبائل، من شعراء وحكماء وخطباء وزعماء، ليبقى تداول اللغات المحلية ضمن كل منطقة السمة الغالبة، وهو ما حدا بالعلماء إلى تهذيب اللسان العربي.
تهذيب اللغة العربية
هناك فروق في ألسنة العرب، تبرز في مختلف مراحل تكوين اللغة العربية وتطورها، إلا أن هذه الفروق لا تمنع أبناء القبائل العربية المختلفة من التواصل والتحاور وفهم كلام بعضهم البعض. وباعتبار هذا الاختلاف تُعَدّ لغة العرب جُملة لغات، وإن كانت في الواقع لغة واحدة. ولمعرفة مراحل التي مر بها تهذيب اللغة لا بد من التمييز بين اللهجة والعامية والفصحى، ثم نلقي ضوءًا على العربية المعاصرة والتطور اللغوي.
أولاً: اللهجات العربية:
لا تُعَدُّ اللهجات العربية لغات مختلفة، فاللهجة صفة صوتية تتصف بها لغة منطقة معينة، فعربية العراقي لها صفات صوتية تميزها في النطق عن عربية المصري أو الخليجي أو الشامي، بل إن عربية البلد الواحد كالشامي، تختلف بين نطق الدمشقي والحلبي والديري، بل ربما كثرت اللهجات في المناطق القريبة المحيطة بالمدن الكبيرة كما هو الحال في القرى الملاصقة لمدينة دمشق، حيث يتكلم أهلها بألسنة تزيد على عشرين لهجة، وهذه الاختلافات الصوتية نسميها باللهجات.
ثانيًا: العربية العامية:
العامية في الحقيقة لغة أخرى وهي فوضوية، لأنها لا قاعدة لها، وليس من منطقها ولا من طبيعتها أن يكون لها قاعدة، فهي خليطٌ بين فصيح الأصل، عربي النسب، ودخيل على العربية، أتى من رواسبٍ لغات امتزجت بالعربية، كالتركية والفارسيّة والفرنسية والإنكليزية وغيرها من اللغات.
ومن أمثلة الفصيح الذي تغيرت مخارجه أو حَرّفته ألسُنُ العوامّ، وأخرجته عن صورته اللفظية، كلمةِ (بُقعَة) فالشامي يَستبدل القاف بهمزة، ويقول: (بؤعة)، وفي مختلف مناطق الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية تستبدل القاف بجيم غير مُعَطَّشة كالجيم الجرمانية.
ومن أمثلة الدخيل: كلمة (دُغري) وتعني إلى الأمام، وفي شبه الجزيرة العربية كلمة (سِيدا) التي وردت من رواسب اللّغات الهندية. وكذلك كلمة (شاويش) المستعملة في مصر، وتعني الشرطي أو الحارس، وكلمة (نباطشي) وتعني صاحب المناوبة في العمل. وهي من رواسب التركية، وهناك عدد كبير من الكلمات غير عربية في العامية، مثل: أجزخانة بجيم جرمانية، وجايدان بجيم مُعطّشة، وهما تركيتا الأصل أيضًا. فالعامية ليست صفة من صفات العربية، كاللهجة والفصاحة، وإنما هي لغة متطفلة تعيش على جسد العربية الفصحى وتزاحمها، لكنها لا تحل محلها ولا تُشكِّل نسيجًا وبنية لغوية كاللغة الأصل، لذلك لا توجد العامية حيث لا توجد الفصحى7.
ثالثًا: العربية الفصحى:
الفصاحة صفة من صفات اللغة العربية، وتعني الوضوح. والكلام الفصيح ما كَثُرَ استعماله وتكرر على ألسنة العرب المختلفة، بألفاظ وتعابير وأصوات مشتركة بين هذه الألسن.
وقد اتفق علماء البيان على أن الكلام الفصيح ما كان سهل اللفظ، واضح المعنى، متلائم الحروف، غير مُتَكَلّف ولا مُستنكَر عند بعض العرب، وفيه سهولة نَظمٍ وقوة معنى. لهذا غدت الفصاحة قيمة عالية موروثة، وفضيلة يتداعى إليها الناس، ومجالاً واسعاً لتعبير العلماء والمثقفين، يسعون من خلاله إلى كمال البيان، الذي هو من كمال الإنسان، كما قال الشاعر9:
كَفى بالمَـــرء عَيبًا أن تَراهُ
وما حُسنُ الرِّجالِ لَهُم بِزَينٍ
لهُ وَجـــــهٌ وليسَ لَهُ لِسـانُ
إذا لم يُسعِدِ الحُسنَ البيانُ
يُعَدُّ اختلاف اللسان العربي من عناصر قوة اللغة العربية، وليس من عوامل ضعفها؛ لأنه يضمن تطورها واستمرارها. ولا يخفى أن اجتماعات العرب في الجاهلية وصدر الإسلام في أسواق عكاظ وغيرها كانت حالة حضارية، إذ كانت مركزًا مهمًا في الصناعة اللسانية، وكانوا يبالغون في هذه الأسواق بانتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها، فكان لها دور عظيم في التهذيب اللغوي، يبعث على شيوع الفصاحة وبلوغها درجة عالية من التطور. فالعرب كانت ترجع إلى منطق قريش عند الاختلاف، نظرًا لوضوح كلامهم من جهة، ولأن لغتهم تمثل القدر المشترك في فهم جميع أبناء العربية من جهة ثانية؛ إذ معظم العرب تفهم لهجة قريش بسبب احتكاكهم المباشر والمتواصل بأهلها، ولهذا تمثل الفصاحة حالة نمو طبيعي للقدر المشترك بين لغات القبائل العربية.
رابعًا: العربية المعاصرة والتطور اللغوي:
العربية من أقدم اللغات التي يتكلم بها البشر اليوم، وقد حافظت على خصائصها الصوتية والصرفية والدلالية والمعجمية على مَرّ العصور والقرون، لارتباطها بالقرآن الكريم والسنة النبوية، فالقرآن نَزَلَ بلسانٍ عربي مُبين، ويستوي في معرفته كل من نزل عليهم، سواء كانوا من أبناء اللسان العربي أم من الذين اتخذوا العربية أداة فكرٍ وبيان.
ولو نظرنا في عربية الشِّعر الجاهلي ثم نظرنا في عربيتنا اليوم، فلا نجد فرقًا إلا في بعض الغريب من الألفاظ وبعض التراكيب اللفظية، وهذا يُدرَكُ بالرجوع إلى أقرب مُعجَمٍ، فحروف المباني هي ذاتها، وحروف المعاني هي ذاتها أيضًا، وأبنية الأفعال هي هي، وكذلك أبنية الأسماء، والمثنى والجموع بأنواعها، كل ذلك لا يختلف في غابر العربية وحديثها، فهذا قول امرئ القيس:
ولو أنّها نَفسٌ تَموتُ جَميعَةٌ
ولَكِنّها نَفسٌ تَساقَطُ أنفُسا
فهو شِعر صادقٌ لشاعر يتعذبُ، وكأنّه يعاني من الموت البطيء، فكأنّ نفسه تقسمت إلى أنفس، تموت واحدة تلو الأخرى، فيقول لو كانت لي نفس واحدة لهان الأمر، ولكنها أنفس كثيرة. فأي فرق بين كلام امرئ القيس الجاهليّ، وبين كلامنا اليوم؟ وإن رجعنا إلى زمن أبعد من زمن امرئ القيس، ونظرنا في شعر الأضبط بن قُرّيعٍ السَّعدي، وهو شاعر عاش قبل الإسلام بنحو خمسمئة سنة، وسمعناه يقول:
لكُلّ هَمٍّ من الهُموم سَعَه
وخُذ مِنَ الدَّهر ما أتاكَ بِهِ
لا تَحقِرَنّ الفَقيرَ عَلّكَ أن
والمُسيُ والصُّبحُ لا فَلاحَ مَعَه
مَن قَـرَّ عَـينًا بِعَيشـه نَـفَـعَـه
تركَعَ يومَاً والدّهرُ قد رَفَـعَـه
هذا شعر شَجيُّ النّغَمِ، عميق الحِكمة، يَتولّج في القلب، ويَنصَبُّ في السمع، وليس فيه من الغريب إلا قوله: “لا فلاح” وهي بمعنى البقاء، ويعني أن المساء والصباح رائحان غاديان، لا يبقيان على حال. فهذا من شعر الجاهلية الأولى، فهل أنت بحاجة أن تصحب معجمك مع كُلّ لفظة تقرؤها فيه؟ كما يزعم الزاعمون. ثم أليست لغة الشعر هذه هي ذاتها لغتنا المعاصرة، في حروفها وأفعالها وأسمائها ومصادرها وجموعها؟
إن هذا الصدع في جدار لغتنا وتقسيمها إلى لغة تراثية ولغة معاصرة، إنما شَقّه بعض المستشرقين الذين اشتغلوا بتراثنا منذ أكثر من خمسة قرون، فهم يميزون دائمًا بين مستويين من الفصحى، يُسمّون الأول: القديمة أو التقليدية، ويسمّون الثاني: العربية المعاصرة، ثم يتحدثون عن مستوى ثالث يسمونه العربية المحكية أو الدّارِجة، ويعنون به العامية، وقد تابعهم على هذا الكثير من أبناء العربية، وظنوا أن هذه القرون المتطاولة التي مرّت على العربية غيّرت لونَها وقُدرتَها، وأن ما بين أيدينا من العربية شيء مختلف تمامًا عن العربية التقليدية (الكلاسيكية)، كما يزعمون، فهما لغتنا تتفقان في الشكل والرسم، ثم يمضي كُلٌ في طريقه، كما قال الشاعر:
أمّا الخيامُ فإنِّها كخيامِهِم
وأرى ديار الحَيِّ غيرَ ديارِهِم
إن واقع العربية بالرغم من هشاشته إلا أنه ينفي هذه الدعاوى، وثقتنا بعربيتنا المعاصرة لا تقل عن ثقتنا باللغة الموروثة، لأنهما غير متجافيتان ولا متباعدتان، إلا في بعض الألفاظ الواردة في القديم من الكلام العربي، وما في اللغة المعاصرة من بعض العيوب10.
اللغة الأدبية
بالرغم من أنّ اللغة العربية أحدث اللغات السامية، إلا أنها أوسعها مدى، وأغزرها مادّة، وأوفاها بالحاجة الحقيقية من اللغة، لكثرة أبنيتها، وتعدد صيغها، ومرونة اشتقاقها، وانفساحها إلى ما يستغرق اللغات، مع أنها من أقل اللغات أوضاعًا.
وإن الانتظام البنائي للجملة، المكوَّن مِن نَسَق ثابتٍ في توزيع الحروف والأصوات العربية، له أثر كبير في جعل اللفظ الصوتي لا يختلف إلا عند اختلاف الجذر الثلاثي. وهذا يتحقق في مجموعات كبيرة من الجذور الثلاثية، فكان الميزان القياسي أو الاشتقاق القياسي من أهم عناصر تطوّر اللغة العربية، وبه تحصل المرونة اللفظية وسلاسة التعبير وتآلِف الإيقاع. وهو ما يتيح الاقتران بالمؤثرات اللفظية، التي لم تتحقق إلا في اللغة العريية، بل وأثرت في ترجمة ونقل المفاهيم العربية إلى لغات أخرى، وخاصة الصياغات ذات التراكيب الأدبية الخاصة كالشعر مثلاً، فكانت هذه التراكيب الخاصة المتصفة بسلاسة التعبير وتآلف الإيقاع هي الأساس الذي انطلقت منه اللغة الأدبية.
وبالرغم من المرونة اللفظية وسلاسة التعبير في بنية الجملة العربية وقدرتها التوليدية والتطويرية التي زخرت بها خزانتها للفظية والأسلوبية، إلا أنه قد يكون الدافع الأقوى وراء هذا التطور هو الحاجات الاجتماعية والسياسية والفكرية، وذلك لإبراز الشكل الأدبي الذي يُمَكِّنُ من التعبير عن القيم والمشاعر والعادات والأفكار، وإبرازها بأسلوب خاص يظهر الصفات الفردية والقبلية للإنسان العربي، ويقوي انتماءه وولاءه، ويترجم الوجدانيات والأحاسيس التي تدور في أعماقه، ويعبر عن الأفكار والانفعالات ذات الأثر الخاص في حياته.
إن تبادل وتناقل هذه الأساليب والصياغات الأدبية التي تمثلت في الشعر والخَطابة والأمثال وغيرها، مَكّن من تحميلها صورًا لفظية رائعة، ذات رونق بياني فريد في التعبير عن القيم والمعاناة والوجدانيات والأفكار. وطغى هذا اللون الأدبي على أشكال الفصاحة، وبلغت ذروتها في معلقات الشعر الجاهلي التي كتبت بماء الذهب وعُلِّقَت على جُدران الكعبة – بحسب بعض الرّوايات- في المكان الأكثر قدسيّةً وتعظيمًا عند القبائل العربية.
وممّا زاد من نُموّ اللغة العربية الأدبية، وسرّع من تطورها، انتشار النوادي الأدبية التي أنشأتها بعض القبائل العربية خلال شهور السنة، فكان الناس يتنقلون بينها، ومن أشهرها سوق عكاظ الذي يقع في مكة في شهر الحَجّ. كما يكون سوق “دومة الجَندل” في الحجاز في شهر ربيع الأول، وينتقلون في ربيع الآخر إلى سوق “هجر” في البحرين، ثم عُمان وصَحَار بعدها، ثم في شهر شعبان ينتقلون إلى الشّحر وعدن وأبين في اليمن، ثم حضرموت في ذي القعدة، بالإضافة إلى أسواق كثيرة تقع في الحجاز منها: “ذي المجاز” و”مِجِنّة” و”حُباشَة”، هذا بالإضافة إلى بعض الأسواق التي تقع خارج الجزيرة العربية، منها: سوق “الأنبار” وسوق “الحيرة”، وبعضها استمر إلى ما بعد صدر الإسلام. وكان سوق عكاظ من أشهر هذه الأسواق على الإطلاق، ومن أكثرها تأثيراً في تهذيب اللغة ورصانتها الأدبية، نظرًا لأنه مقصد جميع القبائل العربية، بسبب توقيت انعقاده في مكان الحج وزمانه، مع بروز الأثر الكبير لجميع هذه النوادي في تكوين وحدة اللغة الأدبية، وصقل مبانيها، وفصاحة لسان أهلها.
التراث اللغوي العربي
اللغة خزّانٌ فنيٌ، وديوان ثقافي لكل أمّة من الأمم، فيه تاريخ الأمة وحضارتها وأدبها وأخلاقها، وسماتها وخصائصها، وفكرها واعتقادها، وطموحها ومستقبلها، وتعدّ اللغة من مكوِّنات المجتمع الأساسية، ومن أعضائه الحيوية، والتراث اللغوي العربي هو مجموع ذلك الركام المعرفي الغزير والمتناثر في تاريخ الفكر العربي، ويشكل التراث اللغوي العربي تحولاً جوهريًا في مسيرة التراث اللغوي العالمي، ويؤكد تُراثنا اللغوي بمفهومه الواسع الكبير، على أنه لو اِلتَفَتَ اللُّغَويون وعلماء اللسانيات المعاصرون إلى التراث اللغوي العربي لكان علم اللسانيات الحديث متقدمًا بمراحل عمّا عليه اليوم11.
ومن الثوابت التاريخية أن اللغة العربية لم تدخل أبدًا مع أية لغة قومية في علاقة قوة أو صراع استئصالي حتى ولو كانت لغة قبيلة، بل حرصت العربية على استمرار لغات الأمصار حيّة، فقاسمتها وظائف التواصل الاجتماعي، وهو ما حصل بين الأمازيغيات، لغات الكثير من القبائل الصغيرة المتناثرة في رقعة واسعة من شمال غرب إفريقية، إلا إن أخذنا بعين الاعتبار الحركة البربرية المصنوعة حديثًا في باريس لمناهضة العربية والثقافة الإسلامية ومناصرة الفرنسية وثقافتها، وتغليف كل ذلك بثوب إحياء الهوية الأمازيغية لغة وثقافة!12. وهو ذاته ما حصل مع بعض الدعوات التي ظهرت في لبنان ومصر في العقود الأخيرة مع فارق الخصائص والحيثيات.
إن التراث اللغوي العربي أشمل وأوسع مما قدمه النحاة العرب أمثال الخليل بن أحمد وسيبويه وابن يعيش وغيرهم. فهو كل عمل عربي وضعه العرب القدماء من أجل تفسير النص القرآني والنصوص العربية الأخرى التي تحمل أصول الفكر العربي وأدواته، فتكون مصادر تراثنا اللغوي العربي هي:
- كتب النحو وشروحه التي تعالج بناء الكلام العربي وتراكيبه وسلامته.
- كتب تجويد قراءة القرآن الكريم، التي تدرس الصوتيات اللغوية العربية أو علم الصوت.
- كتب البلاغة والبيان وعلم المعاني والفلسفة والمنطق، التي تدرس الدلالات اللغوية والاصطلاحية.
- تفاسير القرآن وشروح السنة النبوية، والتي تُبيّن التطبيقات الوظيفية لِلُّغة العربية.
- دواوين العرب الشعرية والنثرية والشروح التي تناولتها.
- الموسوعات المعرفية المختلفة التي كتبها عظماء الكتّاب العرب، أمثال الجاحظ وابن عبد ربه وابن حزم الأندلسي وغيرهم.
- المعاجم اللغوية كما هي الحال عند ابن منظور والجواهري والفيروزآبادي وابن فارس والأصمعي والزمخشري والقالي وغيرهم.
- كتب التاريخ والروايات الأدبية والطرائف كما هي الحال عند الطبري وياقوت الحموي والأصفهاني وغيرهم.
حال العربية بين الأمس واليوم
بالرغم من أن اللغة العربية أحدث اللغات السامية إلا أنها تُعَدُّ من أقدم اللغات المتداولة في عصرنا الحاضر، ولاتزال عربيتنا تتمتع بخصائصها الصوتية والصرفية والمعجمية والدلالية. وإنما حافظت العربية على خصائصها في البنية والصوت والمعجم، لأنها ارتبطت بالقرآن الكريم والسنة والنبوية، فاكتسبت نضجًا وتكاملاً بنائيًا جعلها متميزة في القدرة على التعبير عن أعظم حضارة عرفتها البشرية، ولا تزال العربية تتمتع بقدراتها التعبيرية التي تمكنها من إبراز مستحدثات الأمور مهما بلغت من الدِّقة، على الرغم من ضعف أبنائها عن مواكبة ثرائها وجمالها التعبيري وكمالها ورونقها البياني، لكنها تواجه جميع التحديات المعاصرة بثبات واقتدار، حيث يتضح من المقارنة بين العربية ولغات أخرى في مواجهة الثورة المعلوماتية التي أثرت على جميع اللغات العالمية إلا أن تأثيرها على العربية كان الأضعف والأقل شأنًا.
وقبل ختام موضوعنا، أرغب بالإشارة إلى ما انتهينا إليه – نحن العرب المعاصرين- من سلوك إزاء لغتنا التي تفانى من أجل خدمتها ورعايتها أسلافٌ عظماء، لتكون لغة العلم والثقافة التي استوعبت العلوم والمعارف والفلسفات ودقائقها.
مع كل أسف، باتت الحواجز حصينة بين كثير من أفراد نشئنا المثقف ولغتهم العربية، ولم يعد خافيًا على أحد مقدار كثافة الحاجز الذي تطاول واستقر، قصدًا إلى إضعاف اللغة العربية في ألسنة أصحابها العرب، وذلك تحت شعارات خدّاعة وبراقة؛ كالدعوة إلى تبسيط القواعد العربية أو ترك الإعراب تارة، والترويج للعامية تارة أخرى، والدعوة إلى كسر عمود الشعر لإحلال ما يسمى “الشعر المنثور” تارة ثالثة، والتقليل من شأن تراثنا الأدبي النثري بأنواعه تارة رابعة، والقصد البعيد من وراء ذلك هو إقامة جدار حاجز بين الأجيال الجديدة من أبناء العربية ومصادر لغتهم وتراثهم اللغوي الأصيل، فإن حُجِز عنه لم يَعُد قادرًا على فهم تراكيبها وأساليبها وبيانها.
لقد قاومت لغتنا ولا تزال تقاوم جميع المحاولات التي استهدفتها من لدن أبنائها وغير أبنائها؛ ولم يُكتب لها النجاح أمام اللغة التي شاء الله أن تحمل خطابه إلى الناس كافة. لكن مما يؤسف له أن ينتهي الأمر بنا اليوم إلى التخلي عن الحرص عن دراستها وإشاعة الرغبة في القراءة والكتابة لدى النشئ والطلبة، لتبرز ظواهر تغليب اللغات الأجنبية وإتقانها، في مقابل ضعف محصلة الأجيال الجديدة بلغتها؛ مفردات وتراكيب. يزيد الأمر سوءاً التأثر بلغة الشابكة (Internet)15، ولغة العمالة الأجنبية في بعض بلداننا، بعد أن جارينا أصحابها في مفردات لغتهم الوافدة وأساليبها، في تعاملنا ومحادثاتنا معهم، لتنتج لنا لغة مختلطة هجينة.
ولم يقف أمر الرطانة والضعف والتهاون عند حدود المواقف العفوية وسلوك الشباب الذين صاروا يتباهون بمخالطة لغتهم لغةَ الغالب، على حد تعبير مؤرخنا الكبير ابن خلدون، بل تجاوزه إلى باحثينا ودبلوماسيينا الذين بدوا حريصين في كل مؤتمر دولي على التكلّم بغير العربية، على الرغم من وجود وسائل الترجمة الفورية، وخلافاً لأقرانهم الألمان والبريطانيين والروس والفرنسيين..إلخ، الذين يتحدث كلٌّ منهم بلغته الخاصة، رغم تمكنه من التحدث بالعربية، لنكشف بذلك عن ضرب من ضروب الإحساس بالدونيّة.
ولا شك بأن هذه الظواهر من شأنها أن تهدد مستقبل لغتنا، وتُضعِف من فرص قوتها وحضورها في حياتنا وفي المحافل الدولية، وهو ما يتطلب حلولاً حقيقية تنهض بها قرارات سياسية، تعتمد خططاً استرتيجية، من شأنها دعم اللغة والقائمين عليها، وتطوير مناهج تعلّمها، وتسهيل طرقها، وإشاعة استخدامها في الترجمة والتعريب، وتنمية الاعتزاز بها، بوصفها أبرز دعائم الهوية وأكثرها تعبيراً عن خصوصيتنا في عصر العولمة وثورة الاتصالات التي لا مكان فيها للضعفاء والمتهاونين.
ولا رَيبَ أنّ علاقة اللغة بحياة الأمة وتقدمها وازدهار حضارتها هي علاقة طردية. ولعله يكفي أن ننظر إلى منزلة العربية في العصور الزاهرة من تاريخ أمتنا، ومكانتها لدى الشعوب الأخرى، واهتمامهم بها، ومكانتها لدينا اليوم، ونظرة الآخرين التي تراجعت كثيراً، لهذه اللغة التي تُعد من أرقى لغات العالم ومن أكثرها خِصبًا وفتنة وعبقرية.
المصادر المراجع:
- بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، ترجمه: عبدالحليم النجار، ط2 دار المعارف، القاهرة 1968.
- حسان الطيان، كيف تغدو فصيحًا عَفّ اللسان، دار البشائر الإسلامية، ط2 بيروت 2002.
- حسن ظاظا، الساميون ولغاتهم، ط2 دار القلم، دمشق 1990.
- حفني ناصف، حياة اللغة العربية، مكتبة الثقافة الدينية، بور سعيد ٢٠٠٢.
- حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي، ط1، دار الجيل، بيروت 1986.
- علي عبد الواحد وافي، نشأة اللغة عند الإنسان والطفل، ط2 نهضة مصر 2005.
- القزويني، التلخيص في علوم البلاغة، ت: البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت ١٩٣٢.
- مازن المبارك، نحو وعي لغوي، ط٤، دار البشائر، دمشق.
- مجلة التراث العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد 48، السنة 12، تموز 1992.
- محمد الأوراغي، لسان حضارة القرآن، ط1 الدار العربية للعلوم، بيروت 2010.
- محمود محمد الطناحي، في اللغة والأدب، ط1 دار الغرب الإسلامي، بيروت 2002.
- محمود أحمد السيد، في طرائق تدريس العربية، جامعة دمشق، دمشق 1981.
- مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب، ط6 دار الكتاب العربي، بيروت 2001.